جالت في الحافلة مرة ومرتين، لكن جميع المقاعدكانت قد شغلت، عدا مقعد واحد.. حاولت تجنبه! ولكنه رقم مقعدها ! الذي أتى مصادفة بجانب شاب أسمر طويل،سبق لقلبها أن ألف وجهه.
توقفت وسألت بخجل:
_ أليس هذا المقعد الثالث والعشرين؟
_ فأجاب وقد توقف عن إشعال سيجارته:
_أ.. أ..أج.... أجل، أجل.
فقد كانت مفاجأة فرح حلوة ذكرت قلبه بشعور سبق أن عرفه، أمام هاتين العينين العسليتين..ثم أضاف:
_ بالتأكيد المقعد الثالث والعشرون.
جلست بهدوء وحذر محاولة ألا تكون قريبة منه. وماهي إلا دقيقتان حتى سارت الحافلة، وملأ صوت فيروز الأجواء بدءاً مع (جايبلي سلام عصفور الجناين، ... جايبلي سلام من عند الحناين).
رغم دفء صوت فيروز، والهدوء الذي كان يضفيه على المكان، إلا أن وجنتي لينا اصطبغتا بلهب أحمر ولّده إحساس ما ملأ نفسها وكاد أن يحرق وجهها الأبيض المفعم بالحياة... فهي لم تلقِ السلام ولاحتى تحية الصباح التي اعتادت قولها لكل إنسان تصادفه، كل مافعلته هو اللجوء إلى كتاب كان في حقيبتها، أخرجته، وفتحته على صفحة غير معينة، وبدأت تقرأ!
كانت عيونه تتقادح فرحاً حاول الانكماش قليلاً حتى لايضايق الطفلة الخجولة التي تجاهلته إلى كتاب صغير اصطفت فيه الكلمات بغزارة وأبعدتها عنه.
هدّأ الكتاب النار المشتعلة في قلبها، وبرر سكونها تجاه ذلك الشاب طوال تلك الفترة.
وصوت فيروز يلازمهما دون تعب، بل يتلون أغنية تلو الأخرى، حتى تبدأ (بحبيتك تنسيت النوم، ياخوفي تنساني، حابسني برات النوم، تاركني سهراني، بشتقلك لابقدر شوفك ولا بقدر أحكيك، وبتهملني كل ما لقيتك، أنا حبيتك حبيتك).
كانت الكلمات أقوى وقعاً في نفسها من الكلمات التي أمامها، والتي لجأت إليها تخفي حبها وراءها. مرت ساعة ونصف...، ثم نصف ساعة أخرى، والاثنان محافظان على صمتهما.
حاول أن يبادرها بسؤال...، ترددكثيراً..!. فهو يخاف أن تهرب كلمات السؤال، التي استمر في التدرب عليها منذ بداية الطريق. لكنه قال أخيراً:
_ كم بقي من الوقت حتى نصل إلى دمشق؟
_ لا أعلم فهذه هي المرة الأولى التي أذهب فيها إلى الجامعة. قالت ذلك دون أن تدير وجهها، لم تدرك أن سؤاله كان محاولة خجلة أولى للوصول إلى قلبها.
اعتبرته سؤالاً عادياً عابراً، نسيت أنه يدرس في جامعة دمشق منذ سنوات ثلاث! أما هو فاعتبر ردها إجابة مختصرة عادية. وما هي إلا ساعة حتى توقفت الحافلة ونزل الركاب. حمل كل منهما حقيبته، واستدار في وجهة معينة، والخيبة بادية على الاثنين معاً، لم تلاحظ أن سيجارته لم تشتعل طوال الطريق، وهو لم يلاحظ أن صفحة الكتاب لم تتجدد طوال ساعات ثلاث!
آية حنا